محطات من عمر النكبة
عيناها الزرقـــاوتان تتلألآن جمـــالاً وسحــراً ، زاد رونقهما بريق دمعتين مسحتهما بكف يدها المرتجفـة ليس من البرد أو مـــن الخوف ، بل من الكبر.
إنها في نهاية العقد السابع من عمرها ، تتهيأ بنفسية الشباب لتهاجر طلباً للاستقرار.
نظرت حولها ونحن نودعها وتمتمت بكلمات استوقفتني لأسالها عن سرّ سفرها بعيداً ..
قالت : بنيتي إنها محطات من عمر نكبتنا ،
كنت شابة في السابعة عشر من عمري عندما وضعنا في شاحنات توجهت بنا بطريق صعبة عتمة إلى أن وصلنا إلى العراق ..هناك على رمال البصرة حطت رحالنا .. لا تسأليني لماذا فأنا لا أعرف طلاسم السياسة والمعاهدات والاتفاقيات ، كل ما أعرفه إني تركت الأرض والبيت ، تركت زيتونة طالما لعبت في صغري حولها ونسجت في مخيلتي أن أعمل من أغصانها أرجوحة لأولادي ، تركت سنابل القمح تتماوج بلونها الذهبي وتعانق النسيم العليل في رقصاتها وتمايلها ، تركت بيتاً ولدت فيه وتربيت ، تركت كل أشيائي التي تعبر عن وجودي في هذه الدنيا .
سألتها بنوع من الخجل كم بقيتم في العراق ؟
تنهدت بعمق حتى شعرت بأن تنهيداتها تخرج من قلب يحترق ..وردت تزوجت بالعراق وأنجبت أولادي في هذه الدار التي منحتنا إياها الحكومة مشكورة وهي عبارة عن مكان لا يتجاوز مساحته الخمسين متراً مربعاً ، قضيت كل عمري .. ستون سنة مضت أحسست بأنني أعيش بين أهلي على الرغم من الصعوبات التي كنا نواجهها من حين إلى آخر وسكتت !!!
حدثيني يا عمتي عن أولادك ..
وكالتي ارتدت لها الروح بهذا السؤال .. قالت لقد تخرجوا جميعهم الشباب والبنات من الجامعات، منهم من سافر خارج العراق لتأمين مستقبله ، ومنهم من تزوج وبقي هنا في أرض أحببناها وشعب تعامل معنا بكل ودّ واحترام ..
ولكن بنيتي بعد حرب بوش الأب ذقنا الأمرين ، حصار الاستعمار على العراق ، وحصار أهل العراق لضيوف اعتبروهم يوماً من الأيام بأنهم إخوة .
استوقفتها هنا سائلة .. لماذا تعتبرين نفسك ضيفة في بلد عربي شقيق ؟
قالت لست أنا من أعتبر نفسي ضيفة .. هم استضافونا وأعطونا بطاقة لاجئ وبعد حرب بوش غيروا البطاقات وأصدروا لنا بطاقة مقيم .
طلبت العفو قبل سؤالها مجدداً ... ألستم كجميع الفلسطينيين بدول الجوار لفسطين مسجلين في مكاتب الأونروا كلاجئين ؟ ( أخجلني جداً هذا السؤال ولكنها الحقيقة المرة ) .
علا وجهها حمرة الخجل .. ـ ولا أعرف من هو الذي سيخجل فعلا هي أم الأنظمة التي ساهمــت بتهجيرهــم ـ ردت بنيتي لسنا مسجلين بأية منظمة دولية أو إنسانية ..
دفعتني حشريتي لأسالها لماذا تسافرين مهاجرة ..إنها مسافة بعيدة ..
ستمكثين بالطائرة لمدة ستة عشر ساعة ..
قالت أعرف .. أريد أن أعيش بكرامتي ما تبقى من عمري .
بنيتي لا تعرفين كم أعاني بعد فقدان الأحبة ، ها هو ابني على مسافة ربع ساعة من بيتنا ولا أراه بفضل الحواجز الطائفية التي أصبحت الميزة السائدة في عراقنا الحبيب .
إغلاق الطرقات ، وضع المتفجرات بين المتاجر والمدارس والمؤسسات والأماكن الدينية سواء في الجوامع أو الحسينيات .. إنهم يقتلون الأبرياء على الهوية وهم ذاهبين إلى جامعاتهم أو مراكز عملهم ، إنهم يزجون بهم في السجون والزنزانات المغلقة ويمارسون عليهم كل أنواع التعذيب ، إنهم يلاحقونهم ليلاً نهاراً من قبل منظمات لا تعرف الرحمة والشفقة وتدعي الإسلام منهجاً وفكراً .
عمتي اسمحي لي
لقد أزعجتك بأسئلتي وأتمنى أن أصل إلى هدفي بآخر سؤال .. ؟
ماذا ستحققين بسفرك ؟
ردت بكل ثقة إنهم سيؤمنون لي شيخوخة هادئة ، إنهم يقبلونني على أرضهم ـ أي الغرب ـ
سؤال يا عمتي من هو المسؤول في كل هذا ؟
أنا لا ألوم بوش الأب ، ولا بوش الابن ، أنا ألوم العرب كل زعماء العرب .. كلهم تآمروا علينا .. واليوم زعيمنا يتآمر معهم .. فالرئيس الفلسطيني ينشد ويطلب السلام من الغرب فلماذا أنا لا أنشده، وأسعي لقضاء شيخوختي في ربوعهم بأمان واطمئنان وسلام .
حملت محفظتها وكيساً وضعت به دواءها وسارت بخطى ثابتة باتجاه الباب الخارجي لتودعنا بكلمات الرضا وغادرت دون أن تنظر إلى الوراء.
قبل عدة شهور أرسلت لنا صورها وهي تتمتع بجمال شلالات نياجارا ضاحكة فرحة وكأنها ملكت الجنة ..
بقلم
ندى خير الله