في حديث للنبي صلى الله عليه وآلِـه وسلم أنه قال : " كلٌ مُيسر لما خُلق له "صحيح البخاري .
إذاً .. فلماذا تُعتسَفُ المواهب ويُلوى عنق الصفات والقدرات لَيّا ؟
إن الله إذا أراد شيئاَ هيّأ أسبابه ، وما هناك أتعس نفساً وأنكد خاطراً من الذي يريد أن يكون غير نفسه ، والذكي الأريب هو الذي يدرس نفسه ، ويسدُّ الفراغ الذي وُضع له ، إن كان في الساقة كان في الساقة ، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة ، هذا سيبويه شيخ النحو ، تعلم الحديث فأعياه ، وتبلد حسُّهُ فيه ، فتعلم النحو ، فمهر فيه وأتى بالعجب العُجاب .
يقول أحد الحكماء : الذي يريد عملاً ليس من شأنه ، كالذي يزرع النخل في غوطة دمشق ، ويزرع الأُترج في الحجاز !
حسان بن ثابت لا يجيد الأذان ؛ لأنه ليس بلالاً ! وخالد بن الوليد لا يقسم المواريث ؛ لأنه ليس زيد بن ثابت ! رضوان الله عليهم أجمعين .
وعلماء التربية يقولون : حدِّد موقعك !
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ }البقرة : 148 . { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } الأنعام 165 . { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } الأعراف : 160 .
الناس مواهب وقدرات وطاقات وصنعات ، ومن عظمة رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم أنه وظّف أصحابه حسب قدراتهم واستعداداتهم ..
فعليٌ للقضاء ، ومعاذٌ للعلم ، وأُبي للقرآن ، وزيدٌ للفرائض ، وخالدٌ للجهاد ، وحسان للشعر ، وقيس بن ثابت للخَطابة . رضوان الله عليهم أجمعين .
فوضعُ الندى في موضعِ السيفِ بالعلا :: ~ :: مُضرٌّ كوضعِ السيفِ في موضعِ الندى
الذوبان في الغير انتحار ، تقمص صفات الآخرين قتلٌ مُجْهِزٌ .
ومن آيات الله عز وجل : اختلاف صفات الناس ومواهبهم ، واختلاف ألسنتهم وألوانهم ، فأبو بكر برحمته ورفقه نفع الأمة والملة ، وعمر بشدته وصلابته نصر الإسلام وأهله ، فالرضا بما عندك من عطاء موهبة ، فاستثمرها ونمِّها وقدِّمها وانفع بها { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } البقرة : 286 .
إن التقليد الأعمى والانصهار المسرف في شخصيات الآخرين وأدٌ للموهبة ، وقتلٌ للإرادة ، وإلغاء متعمد للتميز والتفرد المقصود من الخليقة
!
تمرُّ بالإنسان ثلاثة أطوار : طور التقليد ، وطور الاختيار ، وطور الابتكار .
فالتقليد : هو المحاكاة للآخرين وتقمص شخصياتهم وانتحار صفاتهم والذوبان فيهم ، وسبب هذا التقليد هو الإعجاب والتعلق والميل الشديد ، وهذا التقليد الغالي لَيحمل بعضهم على التقليد في الحركات واللحظات ، ونبرة الصوت والالتفاتات ، ونحو ذلك . وهو وأد للشخصية وانتحار معنوي للذات !
ويا لمعاناة هؤلاء من أنفسهم ، وهم يعكسون اتجاههم ، ويسيرون إلى الخلف !! فالواحد منهم ترك صوته لصوت الآخر ، وهجر مشيته لمشية فلان ، ليت هذا التقليد كان للصفات الممدوحة التي تُثري العمر وتُضفي عليه هالة من السمو والرفعة ، كالعلم والكرم والحلم ونحوها ، لكنك تُفاجأ أن هؤلاء يقلدون في مخارج الحروف وطريقة الكلام وإشارة اليد !!
ونريد التأكيد على : إنك خلقٌ آخر وشيء آخر ! إنه نهجك أنت من خلال صفاتك وقدراتك ، فإنه منذ خلق الله آدم إلى أن ينهي الله العالم ، لم يتفق اثنان في الصورة الخارجية للجسم ، بحيث ينطبق شكل هذا على شكل ذاك : { وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } الروم : 22 . فلماذا نحن نريد أن نتفق مع الآخرين في صفاتنا ومواهبنا وقدراتنا ؟؟!
إن جمال صوتك أن يكون متفرداً ، وإن حسن إلقائك أن يكون متميزاً : { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } فاطر : 27 .
لا تحزن إن قلّ مالك أو رثّ حالك .. فقيمتك شيء آخر !
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : قيمةُ كلِّ امرئ ما يُحسن .
فقيمة العالم علمه قلّ منه أو كثُر ، وقيمة الشاعر شعرهٌ أحسن فيه أو أساء . وكلُّ صاحب موهبة أو حرفة إنما قيمته عند البشر تلك الموهبة أو تلك الحرفة ليس إلا ، فليحرص العبد على أن يرفع قيمتَه ، ويُغلي ثمنه بعمله الصالح ، وبعلمه وحكمته ، وجُودِهِ وحفظه ، ونبوغه واطلاعه ، ومثابرته وبحثه ، وسؤاله وحرصه على الـفائـدة ، وتثقيف عقله وصقل ذهنه ، وإشعال الطموح في روحه ، والنُّبل في نفسه ، لتكون قيمتُه غالية عالية .